قبل حوالي 25 عاماً أقدم جونثان جاي بولارد، المحلل في الاستخبارات البحرية الأميركية، على خيانة بلاده والمس بحرمة المسؤولية الملقاة على عاتقه بتزويده معلومات سرية لإسرائيل. ومع أن الدولة العبرية كانت ومازالت حليفة للولايات المتحدة، تتلقى بشكل روتني معلومات استخباراتية من المسؤولين الأميركيين لحمايتها وحفظ أمنها، فإنه لابد من الإقرار بأن بولارد يستحق العقاب، لتبقى المشكلة فقط في العقوبة التي يُفترض أن تناسب الجرم، والتي أعتقد أنها في حالته قد تجاوزت الجرم الذي اقترفه. وفي هذا الإطار لابد من التذكير بأن بولارد، بعد اعتقاله واتهامه بالتجسس لدولة أجنبية، عقد صفقة مع المسؤولين الأميركيين تقضي بقبوله قرار هيئة المحلفين الذي أدانه بالتجسس والاعتراف بأنه قدم معلومات سرية لدولة حليفة للولايات المتحدة -ما وفر على الحكومة حرج الكشف عن معلومات سرية- مقابل ألا يسعى المدعي العام الأميركي إلى إنزال عقوبة المؤبد على بولارد. وقد بدا الاتفاق معقولا ما دام الطرفان معاً يستفيدان منه دون أن يمس بسير العدالة. فمعروف أن الحكم العادي الذي يتلقاه من يُتهم بتزويد دولة حليفة بمعلومات سرية لا يتعدى سبع سنوات يقضي منها أربعا ثم يغادر السجن، لكن رغم الاتفاق، حُكم على بولارد في عام 1987 بالسجن المؤبد، وهي العقوبة المخصصة عادة للجواسيس الذين يتخابرون مع قوى معادية للولايات المتحدة، مثل حالة "ألريتش آمز" الذي أدين بتقديم معلومات سرية إلى الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، وهي معلومات خطيرة أودت بحياة العديد من الأشخاص. لكن لماذا تلقى بولارد حكماً قاسياً؟ ولماذا ظل يقبع في السجن رغم مرور كل هذا الوقت، ورغم المناشدات التي أطلقها مئات المشرعين الأميركيين والمدعين العامين المرموقين، إضافة إلى المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، والرئيس السابق للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، ناهيك عن العديد من قادة إسرائيل الذين بحت أصواتهم في المطالبة بإطلاق سراح بولارد. والحقيقة أن بقاء الجاسوس وراء القضبان يرجع إلى أسباب وعوامل أهمها تصريحات وزير الدفاع السابق "وينبورجر" الذي كان يرأس البنتاجون لدى اعتقال بولارد، ففي تصريحاته المكتوبة والتي بقي أغلبها طي الكتمان أشار الوزير إلى أن المعلومات السرية التي كان ينقلها بولارد إلى إسرائيل وجدت طريقها إلى الاتحاد السوفييتي السابق، معتبراً أن بولارد لا يختلف عن أي جاسوس آخر زود المعسكر الشيوعي بمعلومات خطيرة وهو بالتالي متهم بالخيانة العظمى التي توجب إنزال أقسى العقوبات. والسبب الثاني يتمثل في موقف الحكومة الإسرائيلية نفسها والتي رفضت رفضاً قاطعاً عند اعتقال بولارد الاعتراف بأنه كان أحد عملائها، مدعية أنه جزء من عملية خرجت عن السيطرة ولا تعرف عنها شيئاً، بل أكثر من ذلك ودفعاً للتهمة عن أنفسهم رفض الإسرائيليون إرجاع الوثائق العديدة التي سربها إليهم بولارد، أو الإفصاح عن فحواها، وهو ما غذى الشكوك أكثر في تعاون بولارد مع الاتحاد السوفييتي أو أي عدو آخر من أعداء الولايات المتحدة. أما السبب الثالث فيعود إلى بولارد نفسه والذي لم يكن شخصية يمكن أن تحظى بالتعاطف، فهو لم يكتفِ بتلقي أموالا بقيمة 45 ألف دولار نظير تسليمه معلومات إلى إسرائيل، بل لم يبدِ أسفه خلال مقابلتين أجراهما من سجنه مع الصحافة ونُشرتا على نطاق واسع، حيث سعى بدلا من التعبير عن ندمه إلى تبرير ما قام به. لكن تلك الأخطاء جميعاً لم تعد موجودة اليوم، فمن جهة تم إثبات عدم صحة تصريحات وزير الدفاع السابق بشأن وصول معلومات من التي كان يسربها بولارد لإسرائيل إلى الاتحاد السوفييتي، بل إن المعلومات التي وصلت إلى المعسكر الشيوعي خلال 18 شهراً التي كان فيها بولارد يمارس نشاطه التجسسي جاءت على الأرجح من الجاسوسين الآخرين، وهما "آميس" و"روبرت هانسين" اللذان كانا يتعاملان مباشرة مع موسكو، لاسيما هانسين الذي كان ضباطاً في مكتب التحقيقات الفدرالي وتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي من 1979 إلى 2001، كما أن مدير وكالة الاستخبارات المركزية، جيمس ولزي، بين 1993 و1995، أكد بعد مراجعته قضية بولارد، أن لا شيء من المعلومات التي نقلها وصلت إلى الاتحاد السوفييتي. وأخيراً اعترفت الحكومة الإسرائيلية في عام 1998 بتعاون بولارد معها، حيث منحته الجنسية الإسرائيلية وسعت إلى تمتيعه بالعفو لدى ثلاثة رؤساء أميركيين. بل إن بولارد نفسه عبر عن ندمه وأبدى أسفه في العديد من المناسبات على مدى 25 سنة التي قضاها في السجن، وكان على وشك الخروج فعلا عندما توصل الرئيس كلينتون في عام 1998 إلى اتفاق مع رئيس الحكومة الإسرائيلية وقتها نتنياهو للإفراج عنه ضمن خطة لتعزيز عملية سلام الشرق الأوسط، لكن الاتفاق أُجهض بعدما هدد مدير وكالة الاستخبارات المركزية، جورج تينيت، بالاستقالة خوفاً من الرسالة الخاطئة التي قد يبعث بها إطلاق سراحه إلى الاستخبارات الأميركية واحتمال توفره على معلومات مضرة بالأمن القومي. لورنس كورب مساعد وزير الدفاع في إدارة ريجان وباحث بمركز التقدم الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"